لقد رغب الانسان دوما في السيطرة على الطبيعة، وعمل
جاهدا على ضبط الكوارث الطبيعية والأوبئة والأمراض وسواها. وبذل العلماء عبر التاريخ،
جهودا جبارة في هذا الاتجاه. وغالبا ما واجهوا الكثير من الرفض وسوء الفهم للحقائق
التي إكتشفوها وأعلنوا عنها. وكانت قضية غاليلو غاليلي خير مثال على ذلك. ونظرية التطور
والبقاء للأصلح مثال آخر يثبت وجود الكثير من سوء الفهم والتفسير الخاطئ للنظريات العلمية.
وكلما تطورت العلوم النظرية والطبيعية، وتقدمت البحوثات
العلمية، بإستخدام المعايير والتقنيات الحديثة، كلما أصبح في مقدور الانسان فهم وإدراك
الحقائق العلمية الغامضة، وكشف الأسرار الخفية وتبسيطها للناس. وشهدت العصور المتأخرة
خدمة جليلة قدمها العلماء للبشر، وذلك بالتنبوء لكثير من الحوادث الطبيعية قبل حدوثها.
ومعرفة التغييرات المناخية مع علاج الكثير من الأوبئة والأمراض التي كانت تقضي على
عدد كبير من البشر.
وشمل التطوّر كذلك وسائل النقل السريعة من البرية
والبحرية والجوية، والتي أدت الى تقريب المسافات بين القارات والدول وبين البشر. وكان
للتقارب مزاياه الحسنة والسيئة في الوقت نفسه. ولعل من أهم الأمور التي نتجت عنه، المزايا
العلمية والتقنية التي إنتشرت في العالم كله، وأصبحت متوفرة للجميع، وبأسعار مقبولة
جدا.
ومع أن التطورات العلمية المختلفة، التي تبدو أنها
قد نجحت في قيادة العالم نحو المزيد من الاختراعات والاكتشافات لخدمة البشرية، وتسهيل
أمورها، وتحسين أحوالها المعيشية. إلا أن المسيرة العلمية عجزت حتى الآن وللأسف الشديد،
عن ضبط الكثير من الحوادث والظواهر الطبيعية، كالعواصف الشديدة، والزلازل والبراكين،
والأمراض المستعصية التي لم يستطع التحكم فيها، مثل السرطان والروماتيزم والايدز (السيدا)وغيرها.
ونتمنى أن يكون في مقدور العلماء والاطباء القضاء
على جميع تلك الأمراض والأوبئة، والسيطرة على الظواهر الطبيعية المختلفة. والمضي قدما
في إكتشاف أسرار الكون وغزو الفضاء، وبناء حضارات إنسانية أخرى في الكواكب والنجوم
السماوية، وخاصة بعد أن أعلنت الإحصائيات السكانية على عدم قابلية الأرض، في إستيعاب
المزيد من البشر في نهاية القرن الواحد والعشرين.
وتثبت الكشوفات العلمية ومعارف الانسان القديم، بوجود
أدلة دامغة على الطاقة الخلاقة والمُبدعة لدى البشر عبر الآلاف من السنين. فالتطور
العلمي لم يأتي مرة واحدة، ولم ينحصر في مكان واحد أو في بلد واحد فقط، بل جاء بالتراكم
حينا، وعن طريق الوثبات حينا آخر. وإشترك في تكوينه وإنشاءه عدد كبير من البشر، وفي
مختلف العصور الزمنية. ولا بأس من الوثبات العلمية طالما بقيت في حدودها الايجابية،
وطالما بقي غرضها خير البشر وخدمة الانسانية.
وتدخل كلمة العلم اليوم في كل مجال من مجالات حياتنا
سواء في الحديث عن السياسة أو الاقتصاد أو الصحة أو الثقافة. ولا يخلو من ذكرها مجتمع
من المجتمعات البشرية، مهما كان ذلك المجتمع متخلفاً ومتأخرا. لأن العلم قد دخل في
كل صغيرة وكبيرة في حياتنا اليومية، وهو من أهم المكوّنات والأدوات للتغيير الاجتماعي
والثقافي. ولا يستطيع أي فرد أو مجتمع الإستغناء عنه، إذ هو الحجر الزاوية والاساس
الذي تبنى عليه أية حضارة مُتمدّنة.
ولم يقبل العلم منذ بداية العمل به، الطرق العشوائية
والخيالية المعروفة في المجال الثقافي الواسع. لأن الاسلوب العلمي يتميّز بالدقة في
الطرح، وباستخدام الكثير من الأدلة الدامغة، والبراهين الثابتة، مع التفكير والاستدلال
والاستنتاج، والإثبات والنقد والتحليل. ولعل هذا هو الفرق الاساسي والجوهري بين العلم
والثقافة.
ولعب العامل الاقتصادي دورا كبيرا في تطور الحركة
العلمية عبر التاريخ. فكلما إغتنت الدول والامبراطوريات، كلما إزدهرت فيها العلوم والمدارس
والترجمات. وخير دليل على ذلك الامبراطورية الاسلامية في العهد العباسي، والإمبراطورية
الرومانية والبيزنطية.
كانت المدرسة وبشكلها البسيط قديما، من أعظم الانجازات
التي حققها الانسان لتطوير مهاراته، ولتسجيل إنجازاته اليومية، إذ لعبت دورها الكبير
في نشوء الحضارات الإنسانية، وفي عملية التعليم والتهذيب، والتي أدت الى نشوء آراء
ومذاهب فكرية وعلمية وفلسفية مختلفة.
ولعبت الفلسفة أيضا دورا مهما في العلوم الطبيعية
والتقدم العلمي. إذ أن الرؤيا الفلسفية في مجالاتها وإمتداداتها، كانت أوسع وأشمل من
مجال العلم الضيق. ولهذا نجد العديد من الفرضيات العلمية، قد إنبثقت من التأمل الفلسفي
القديم. وكان العلماء يعتبرون في القديم كالفلاسفة والفنانين، إذ كان الفيلسوف يجمع
بين الفن والحكمة والعلم والشعر والطب والموسيقى. وكان من الصعب قديما الفصل بين العالم
وعلمه وفلسفته وفنونه وأدبه وشعره.
فالثورة العلمية إذن لم تأت من فراغ أو بطريقة مفاجئة
أو بقرار من فرد أو مجموعة من الأفراد، بل كانت حتمية تاريخية، جاءت نتيجة لحاجة اقتصادية
مستمرة، رافقت حياة الانسان وحضارته.
وقد شكلت آراء العلماء القدماء، واكتشافاتهم منذ
العصور القديمة أساسا للنهضة الحضارية والعلمية التي نتنعم من خيراتها اليوم. وأصبح
العالم اليوم أكثر من أي يوم آخر، مُدركا عظم ما نحن مدينون به الى عدد من العقول البشرية
في العصور الماضية، سواء في بلاد ما بين النهرين أو في مصر أو في اليونان. إذ أبدع
علماءهم وحكماءهم في علوم الفلك والرياضيات والطب والكيمياء والفنون المختلفة.
وكانت الاسكندرية احدى القلاع العظيمة للعلم في العالم
القديم، وخاصة في حقل العلوم والفنون. وهناك أسماء لا ينساها التاريخ كالعالم (بطليموس)
الذي عمل في الخرائط الكونية، ووضع خريطة لمجموعتنا الشمسية. والعالم (هيباركوس) الذي
قدر المسافة بين الارض والقمر. والعالم الجغرافي (ايراسثنس) الذي توصل الى تقدير حجم
الارض تقديرا مضبوطا.
وكان للعرب أيضا نصيبهم من العلم وتطوير حقوله. وبرز
فيهم علماء كبار (كالخوارزمي وابن الهيثم وابن رشد) وغيرهم، من الذين حملوا مشعل العلوم
الذي أوقدته الحضارات السابقة في سومر وبابل ومصر والصين والهند واليونان. إلا أنه
بعد فقدان العرب لقوّتهم، وسقوط امبراطوريتهم، بدأت الشعوب الاوروبية نهضتها العلمية
العظيمة التي شملت كل الخبرات الانسانية مجتمعة. وكان (ليوناردو دافنشي) العالم والفنان
والرسام، خير عنوان لتلك النهضة، بالاضافة الى (كوبرنيكوس وغاليلو غاليلي ونيوتن وكبلر)
وغيرهم من العلماء والعباقرة، الذين وضعوا الأسس لكثير من الحقائق العلمية حول الكون
والفلك والطب والحياة والفنون والجغرافيا وغيرها من العلوم الاخرى.
وقد أحصينا عددا كبيرا من التعاريف التي حفظت عبر
التاريخ حول العلم، وتطوّر مفهومه، وعلاقته بالفلسفة والثقافة والفنون. ففي المعاجم
الإنكليزية، العديد من التعريفات لكلمة (علم) ومن أشمل تلك التعاريف: "أن العلم
فرع من فروع الدراسة تلاحظ فيه الوقائع وتصنف وتصاغ فيه القوانين الكمية، ويتم التثبت
منها". ويتبيّن من خلال تلك المعاجم أن العلم لا يُكتسب إلا بواسطة الملاحظة والتجربة،
ولا يتم توضيحه إلا عن طريق القواعد والقوانين والمبادئ والنظريات. ومن غاياته: حب
المعرفة والاطلاع ودفع الانسان الى التعرّف على العالم المحيط به، وحفزه إلى وضع تفسيرات
للظاهرات الطبيعية المختلفة. ولكن من إحدى وظائفه الرئيسية: التوصل الى الحقائق، ودفع
المعرفة الى أمام من أجل تحقيق التقدم والتطور. وأما إشتقاق لفظته فهو من فعل علم بالشيئ
أي عرفه، أو أطلع عليه.
ولما كان العلم من الأركان الثقافية المهمّة، ومن
وسائلها المعروفة. فهو إذن جزء من حضارة الانسان، وسيبقى ضروريا للحضارة الانسانية
الى الأبد. ولم يجد الانسان أفضل منه كوسيلة تعينه في التغلب على مصاعب الحياة والطبيعة،
والتحكم في ظواهرها المختلفة. فالعلم هو من صنع الانسان، ومن سعيه وبحثه الدؤوب، لتحقيق
احتياجاته من السكن والغذاء والكساء والنقل والدواء والاتصال والبريد وتكنولوجيا البناء
وغيرها من الاكتشافات والاختراعات.
ومن المعلوم أنه لولا العلم، لقضى الكثيرون من الناس
من الأمراض والبرد والجوع والزلازل والبراكين. إلا أنه بالرغم من أهمية العلم وضرورته،
إلا أنه يشكو الكثير من صعوبة تدريسه، مقارنة بالموضوعات الأخرى. ولذلك يتجنب دراسته
عدد من البالغين الذين لا يرون أي ارتباط له معنى في حياتهم الخاصة. ولكن مع ذلك يبقى
العلم أسلوباً معرفياً، يتأهل الفرد من خلاله لتكوين عقلية منطقية، يستطيع من خلالها
حمل الثقافة ونشرها بين البشر.
والملفت للنظر أن العلم يتصف بالوضوح والدقة، بعكس
الثقافة التي قد تشمل بعض الطرق الخيالية والرمزية والحسيّة والعاطفية، البعيدة نوعا
ما عن الطرق العلمية والمنطقية. وهذا يدل على أن العلم والثقافة، يرتبطان إرتباطاً
جذريا بعضهما ببعض، إذ يعملان كلاهما على تغيير الانسان نحو الأفضل والأسمى. ولهذا
فكلما إنتشر العلم في مكان ما، انتشرت معه الثقافة، وقلَّ الجهل والأمية، وزاد معدل
الأعمار، والوعي بالذات، وبالوجود والآخر.
وتلعب وسائل الاعلام المختلفة، كالتلفزيون والانترنيت
والصحف والمجلات والمناهج الدراسية، دورا متميّزا في نشر المفاهيم الثقافة والعلمية
لدى الأفراد. وقد استخدمها الغرب ونجح في نشر ثقافته والترويج لأفكاره وقيّمه الثقافية
والأخلاقية والاجتماعية والسياسية من خلالها. فإذا لم نواكب العالم المتمدّن، بإعادة
صياغة برامجنا وأولياتنا التنموية، فإننا سنبقى في مرحلة الاعتماد على تلك الدول في
كل شىء، بالرغم من إمتلاكنا لمعطيات التقدم، ووسائل التغير نحو الأفضل.
ولذلك أصبح نشر الثقافة العلمية اليوم على نطاق واسع،
ضرورة بالغة الأهمية ولاسيّما في مجتمعاتنا الشرق أوسطية التي تواجه التحديّات الحقيقية
للبقاء والاستمرار. بسبب التأخر الحضاري، وتأثير الحضارات المتطوّرة، وأسلوب العولمة
المنتشر اليوم، والذي يغزو ثقافاتنا بكل الوسائل والطرق.
ولابد في هذه الحالة من فتح النوافذ، والأبواب، والمسامع،
والحواس للتكنولوجيات والتقنيات العلمية المتطورة، والقيام بحملة تحديثية للمعارف والثقافات،
والكشف عن الطاقات القادرة على التفاعل الحيّ والخلاق، للحاق بالركب الحضاري، ومواكبة
العصر الذي نحن فيه. ولا بد أيضا من وجود وعي ثقافي شامل يتضمن برامج البحث والتطوير
والتعاون المشترك مع الدول المتطوّرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق